الاثنين، 10 يوليو 2017

فــــن الــمــقــالــــة

فــــن الــمــقــالــــة
لـــــ د. عبدالرؤوف زهدي
و
د. سامي يوسف ابوزيد



نشــــأة المقــــالة:

 المقالة ( Essay ) فنّ حديث تطوّر عن فنّ الرسالة الأدبية ؛ إذ لم يعرف تاريخنا الأدبي المقال بالصورة التي نراها عليه في وقتنا الحاضر ، و لكن كان لدى العرب فنّ نثري قريب في خصائصه الفنّية من هذا الفن ، كانوا يسمّونه الرسائل ، و لا نقصد بها الرسائل الديوانية التي كان ينمّقها الكتّاب على لسان الخلفاء و الأمراء و القادة ، و يبعثون بها إلى الولاة و الأفراد ، و لا الرسائل الإخوانية ( الشخصية ) التي يتبادلها الأدباء في المناسبات المختلفة ، و لكننا نقصد الرسائل التي كان يخصّصها الكتّاب لموضوعات بعينها ، كرسالة الجاحظ في القيان ، و رسالة أبي حيان التوحيدي في علم الكتابة و غيرها . و ذهب بعض الباحثين إلى أن المقالة فنّ قديم و ليس ظهورها إلا عودة إلى الأصول العربية التليدة . يقول عبداللطيف حمزة: "على أنه ربما كان من الخطأ – فيما أرى – أن ننظر إلى المقال الصحفي على أنه شيء جديد كل الجِدَّة في تاريخ الأدب العربي ، في حين هو شيء له مقدّماته التي مهّدت لظهوره في تاريخ الأدب العربي" <1>.

إن المقال في الأدب العربي الحديث لم ينشأ بوصفه فنّاً أدبياً مستقلاً ، بل ارتبط منذ نشأته بالصحافة ، و استمدّ منها وجوده ، و تنوّعت موضوعاته بحسب الاتجاهات التي سادت الصحافة العربية ، فكان في بدايته محدود الأفق  ، يتناول موضوعات وطنية و اجتماعية ضّيقة المجال ، ثم اتسعت آفاقه ليشمل كل شؤون المجتمع و أحداثه ، كما اختلفت أساليبه تبعا لتطوّر أسلوب الكتابة في الصحف و المجلات منذ مطلع النهضة الحديثة .

و هكذا فالمقالة كما نعرفها اليوم فنّ سبقنا إليه الغرب منذ بضعة قرون على يد الكاتب الفرنسي مونتين ( 1533-1593 م ) الذي يُعدّ رائد المقالة الحديثة ، و فرانسيس بيكون الإنجليزي ( 1561-1626 م ) . و قد ارتبط هذا الفن بالصحافة و تقدمّ بتقدّمها من جهة و باتّساع الحرية الفكرية من جهة أخرى ، إذ تفتّحت آفاق جديدة من المعرفة ، و تعدّدت جوانب الثقافة ، و أخذ الكتّاب يهتمّون بتقديم وجهات نظرهم و التدليل عليها بطريقة مباشرة .


مفهــــوم المقـــالة:


المقالة لغة: مصدر ميمي من الفعل "قال" بمعني القول ، في مثل قول النابغة الجعدي: ( مقالةُ السوء إلى أهلها * أسرعُ  من مُنحدرِ سائلِ ) .
و لكن المقالة بالمعنى الاصلاحي بحث قصير في العلم أو الأدب أو السياسة أو الاجتماع ، يُنشر في صحيفة أو مجلّة . و يرى محمد يوسف نجم أن المقالة <2> : "قطعة نثرية ، محدودة في الطول و الموضوع تُكتب بطريقة عفوية سريعة ، خالية من التكلف و الرهف ، و شرطها الأول أن تكون تعبيراً صادقاً عن شخصية الكاتب" .
و هي بشكل أوضح "نص نثري يدور حول فكرة تناقش موضوعاً" <3> .
و ليست غاية المقالة الانفعال الوجداني بل الإقناع الفكري ، بطريقة مُشوّقة ممتعة .
و تمتاز لغتها بالسلاسة و أسلوبها بالجاذبية ؛ ارتبطت بالصحافة منذ نشأتها ، و أخذت تتخلص من بهارج اللغة و زخرفها .

و قد مرت المقالة بأربعة أطوار ، هي:
الطور الأول: و يمثّله كتّاب الصحف الرسمية حتى الثورة العرابية . و من أبرزهم رفاعة الطهطاوي ، و أحمد فارس الشدياق ، و قد حلفت لغتها بالزخارف و المحسّنات البديعية .
الطّور الثاني: و فيه تحرَّر الكتّاب من قيود السجع إلى حد كبير ، و من أبرز كتّاب المقالة في هذا الطور: أديب إسحاق ، و عبدالله النديم ، ، و محمد عبده ، و عبدالرحمن الكواكبي .
الطّور الثالث: و تميّز بالنزعة السياسة و الاجتماعية ، إذ ظهر إبّان الاحتلال الإنجليزي . و فيه تخلصت المقالة من قيود الصنعة و السجع ،. و من أبرز كتّابها في هذا الطّور أحمد لطفي السيد ، و شكيب إرسلان ، و قاسم أمين .
الطّور الرابع: و قد ظهر خلال النصف الأول القرن العشرين ، و أبرز كتّابها في هذا الطّور : المنفلوطي ، و جبران خليل جبران ، و ميخائيل نعيمة ، و مي زيادة ، و أحمد حسن الزيات ، و مصطفي صادق الرافعي ، و خليل السكاكيني ، و طه حسين ، و هيكل ، و المازني ، و العقاد ، و أحمد أمين ، و أحمد زكي ، و مارون عبود ، و امتازت المقالة فيه "بالتركيز و الدقة العلمية و الميل إلى الثقافة العامة لتربية أذواق الناس" <4> .
و قد أعجب النقاد بالمازني الذي نال حظوة عندهم ، فهو "نسيج وحده في أدبنا ، بل هو ظاهرة لم تتكرر في أدبنا المعاصر ، و إن تكررت مرتين في أدبنا في الجاحظ و الشدياق" <5> .

و تتميز  المقالة بالقصر لأن الكاتب لا يحاول أن يحشد كل الحقائق و الأفكار في الموضوع الذي يتناوله ، و إنما يقتصر على فكرة محددة او على جانب من الموضوع يركّز عليه و يعرضه بأسلوب مقنع جذّاب و بطريقة مترابطة متسلسلة ، "و لا بد أن تكون فِقَرهُ متوازنة ، ليست مسرفة في الطول أو مفرطة في القصر إلا عند الضرورة التي يقتضيها المقام" <6> .
و ليس من السهل تحديد الموضوعات التي تدور حولها المقالة فهي متنوعة بتنوّع التجارب الإنسانية ، و تتصل بالماضي و الحاضر و المستقبل .


عناصر المقالة:


تتألف المقالة من العناصر الآتية:

أ – اللغة: يختار الكاتب الناجح الكلمات المناسبة ، بحيث يراعى الأمور التالية:

1 - يتخلص من الكلمات غير الضرورية ، نحو قولنا ( يعد الرجل خبيراً في السياسة ) بدلاً ( و هو خبيراً في حقل السياسة ) .
2 - يتجنب تكرار الأسماء و استخدام الضمائر المناسبة بدلاً عنها ، نحو قولنا ( يتعرض قطاع غزة إلى الحصار ، و يواجه سكان غزة خطر المجاعة ) إذ تكتب ( بتعرض قطاع غزة إلى الحصار ، و يواجه سكانه خطر المجاعة ) .
3 - لا يتعمد صيغة المبني للمجهول من غير ضرورة ، نحو قولنا ( مُنح ثلاث علماء جائزة الملك فيصل العالمية من قبل لجنة التحكيم ) فتُكتب ( منحت لجنة التحكيم ثلاثة علماء جائزة الملك فيصل العالمية ) .
4 - لا يستخدم جملة أو شبه جملة بدلا من كلمة واحدة ، ( كان محمود درويش هو الذي تم الاحتفاء به في حفلة الأمس ) فيقول ( كان محمود درويش هو المحتفى به في حفلة الأمس ) .
5 -  يتجنب استعمال المفردات و المصطلحات المبتذلة ، و يراعى أموراً في تركيب الجمل ، هي:
* أن تكون الجملة تامة ، سواء أكانت اسمية أم فعلية .
* أن تكون واضحة بعيدة عن التداخل ، مثل ( القى الخطيب كلمته بحماس و كانت موجزة ) فيقول ( القى الخطيب كلمته بحماس و ايجاز ) .
6 - لا يستعمل الجملة الطويلة و لا يفصل بين اركانها الاساسية ، مثل الفصل بين المبتدأ و الخبر أو بين الفعل و الفاعل و المفعول ، نحو ( يذهب الى المدرسة مبكرا الطالب ) فنقول ( يذهب الطالب على المدرسة مبكرا ) .
لا يفصل بين اركان الجملة بجمل اعتراضية طويلة ، مثل ( مكتبة الجامعة الاردنية – التي يرتادها طلبة الدراسات العليا في التخصصات - منظمة ) .

ب – الفكرة: تدور المقالة حول فكرة رئيسية واحدة ، يستمد الكاتب عناصرها من تجربته الخاصة ، و من تجارب الناس في الحياة ، و من ثقافة العامة و قراءاته المستمرة .
إن  الفكرة تشكل عنصراً مهماً في المقالة ، إذ تجعل لها معنى و تحدد لنا الهدف منها ، بأسلوب سهل ، و تنأى بنفسها عن الفكرة المعقدة أو العميقة ، فهذه مجالها البحث العلمي الدقيق .

ج – العاطفة: تشكل العاطفة عنصراً أساسياً في المقالة الذاتية ، التي تظهر فيها شخصية الكاتب ، بما فيها من مشاعر و أحاسيس و آراء خاصة . أما المقالة الموضوعية فتكاد تخلو من العاطفة ، إذ تختفي فيها ذاتية الكاتب إلى حد كبير ، و خصوصاً المقالة العلمية .


أنواع المقالة:


يمكننا أن نميز أنواع المقالة بحسب موضوعاتها ، فنّقول ( مقالة سياسية ، أو اجتماعية ، أو أدبية ، أو تاريخية ، أو علمية الخ ، أو بحسب ميلها إلى الذاتية أو الموضوعية ) ، فإذا قسمنا المقالة نوعين رئيسين (الذاتية و الموضوعية ) عنينا بذلك أن النوع الأول تغلب عليه الذاتية ، و أن الثاني تغلب عليه الموضوعية .
و هذا تقسيم مال إليه محمد يوسف نجم ، لكنه لم يستطع أن يبدد اللُّبس العالق بهما ، إذ نبّه إلى أنهما "ينبعان من منبع واحد ، هو رغبة الكاتب الملّحة في التعبير عن شيء ما ، و قد يكون هذا الشيء تأملاته الشخصية و قد يكون موضوعا من الموضوعات" <7> .
و يميز عبداللطيف حمزة بين أصناف ثلاثة من المقالات ، هي ( المقالة الصحفية ، المقالة الأدبية ، و المقالة العلمية ) ، و هذا تقسيم يشعرنا بأن المقال خطاب تلوّنه أجناس مختلفة ، و تجري في ركابه أنماط متباينة .

أ - المقال الذاتية:

تظهر شخصية الكاتب في هذا النوع قوية آسرة  تشد انتباه القارئ بما فيها من عاطفة مشبوبة و انفعال قوي ، و تعتمد المقالة الذاتية على أسلوب يتدفق بالموسيقى و الإيقاع الذي يترجم الفكرة ، كما تعتمد على التصوير الخيالي الذي ينبع من وجدان الكاتب <8> و من أنواعها مقالة الصورة الشخصية ، و مقالة النقد الاجتماعي ، و المقالة الوصفية ، و المقالة التأملية ، و مقالة السيرة .

و قد ظهرت مدرستان في كتابة المقال في النثر العربي الحديث ، هما:
* مدرسة التأنق اللفظي: و تقوم على جودة السبك و تأنق العبارة . و من أنصارها ( مصطفى لطفي المنفلوطي ، و مصطفى صادق الرافعي ، و شكيب أرسلان ) .
* مدرسة الترسُّل: و هي مدرسة الأسلوب المرسل المتحرر من التأنق اللفظي و التصنّع البديعي . و تقوم على تقديم الفكرة في عبارات سلسلة ، جيدة السبك في غير ابتذال . و من أنصارها ( طه حسين ، و العقاد ، و المازني ، و المارون عبود ، و غيرهم ) .

و لا شك في أن المقالة الذاتية أصعب في إعدادها من المقالة الموضوعية ؛ إذ هي "تتطلب – فوق حُسن الاستعداد – المزاج الملائم" <9> فضلاً عن أنها "تتبع من عاطفة فيّاضة ، و شعور قوي ، فإذا لم يتوافر هذا عند الكاتب خرجت المقالة فاترة باردة" <10> .
و لننظر الآن في مقالة ( ابنتي ) للمازني لنتبين ما فيها من خصائص المقالة الذاتية ، يقول الكاتب:


ب -  المقالة الموضوعية:

تتميز المقالة الموضوعية بظهور الموضوع ، و محاولة الكاتب إخفاء شخصيته و عواطفه و أفكاره الذاتية . و تتناول بحثا في أي فرع من العلوم الطبيعية أو الإنسانية .
و يرى عبدالكريم الأشتر أن المقالة الموضوعية "يحكمها منطق البحث و منهجه الذي يقوم على بناء الحقائق على مقدماتها ، و يخلص إلى نتائجها" <11> .
و من هذا المنطق يلتزم كاتبها بما يفرضه عليه المنهج العلمي من جمع المادة و ترتيبها و عرضها بصورة منطقية متسلسلة ، و بأسلوب واضح مُيَسَّر ، بعيد عن الاختلاف في التأويل أو الإبهام ، و لا يلتفت الكاتب كثيراً إلى الصور الخيالية أو الإيقاع الموسيقى للعبارات و الألفاظ ، لأنه لا يعرض الحقائق من خلال وجدانه و إحساسه العاطفي ، بل كما ينبغي أن تكون . و كل ما يعنيه أن يبسط حقائق الموضوع الذي يكتب فيه ، و أن يوصلها إلى قارئه في وضوح <12> .

و تتعدد أنواع المقالة الموضوعية بحسب اختلاف الموضوعات ، فهناك المقالة العلمية ، و التاريخية ، و النقدية ، و السياسية ، و الاقتصادية ، و الفلسفية و غيرها مما شاع في صحافتنا اليوم التي أصبحت تهتم بهذه الموضوعات أكثر من اهتمامها بالمقالة الأدبية ، نظراً لانتشار المعرفة العلمية بين الناس و اهتمامهم بأمور السياسة ، و الاقتصاد ، و الفنّون ، و التطوّر العلمي ، لتأثير ذلك كله في حياتهم تأثيرا مباشراً .





هوامش:
1 – عبداللطيف حمزة ، أدب المقالة الصحفية (1/4) .
2 – محمد يوسف نجم ، فن المقالة ( ص 25 ) .
3 – حسني محمود و زميلاه ، فنون النثر العربي الحديث ( 1/122 ) .
4 – انظر : إبراهيم السعافين و زملاؤه ، أساليب التعبير الأدبي ( ص 257 و 258 ) .
5 – انظر : محمد يوسف نجم ، فن المقالة ( ص 85 ) .
6 - انظر : إبراهيم السعافين و زملاؤه ، أساليب التعبير الأدبي ( ص 259 ) .
7 – انظر : أحمد السماوي ، المقال السردي ( ص 199 ) .
8 – محمد يوسف نجم ، فنّ المقالة ( ص 97 ) .
9 – أحمد أمين ، فيض الخاطر ( ص 178 ) .
10 - أحمد أمين ، فيض الخاطر ( ص 178 ) .
11 – عبدالكريم الأشتر ، تعريف بالنثر العربي الحديث ( ص 175 ) .
12 - انظر : محمد يوسف نجم ، فن المقالة ( ص 103 ) .



المصدر:
كتاب ( فن المقالة )
المؤلف ( د. عبدالرؤوف زهدي / د. سامي يوسف ابوزيد )
الناشر ( مكتبة الفلاح ) الطبعة الثالثة 2009

لمتابعة بقية الإدراجات الخاصة بالكتاب:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق